تضطرك الظروف أحيانا أن تألف حياة لم تعهدها من قبل، تشعر وكأنها تنتزع من ذاتك، وتريد أن تبدلك داخليًا، قبل مظهرك الخارجي.
البعض يستسلم لهذه التغيرات، فيتحول كليًا لشخص آخر، هو نفسه لا يعلمه،
والبعض الآخر يحاول جاهدًا أن يظل كما هو، مهما قست الظروف من حوله، فيصبح
كضوء خافت في عتمة صحراوية.
«أعرف.. لماذا يغرد الطائر الحبيس»، من رحلة فتاة زنجية، مزقت روحها
العنصرية، والإقصاء الدائم منذ الطفولة، تبحث عن مخرج لها من تلك الحياة،
التي تتعمد إقصاءها واحتقارها بكل ما أوتيت من قوة، إلى «آية»، تلك الفتاة
تطل من خلف أسلاك وحواجز، تغرد بصمتها في أرجاء القفص الصغير، فيسمح حسيسها
القاصي والداني، تحاول أن تصل لإجابة هذا السؤال: «لماذا تغرد الطيور
الحبيسة؟»، لماذا لا يكف الطير عن النداء غير المفهوم، طالما هو داخل
محبسه؟ ينزوي في أحد أركان القفص، ويظل يغرد ويصرخ بتغريده، دون أن يفهمه
أحد، وكأن هذا التغريد عادة لديه، أما في داخله، فيعلم أن هذا الطائر
المسجون لذنب لا يعلم هل اقترفه أم لا!!
لأول مرة أجلس في مثل هذا المكان، أشعر بالبرد الشديد يتسلل من أرضية
القفص؛ ليعبث بجسدي وروحي، كلما ضممت قدمي إلى صدري، ازداد الخوف بداخلي،
أين هم.. أمي، وزوجي؟ لو تعلمون كم أشتاق حاليًا لتمزيق هذه الأسلاك
المحيطة بي، وأفر بعيدًا؛ لأستقر على كتف زوجي، أو حضن أمي.
حذائي الأبيض الجديد يأبى أن يتأقلم مع هذه القاذورات، التي تحدق بي من
كافة الجهات، وما هي إلا لحظات، وتنقض عليّ وعلى قدمي، أحاول أن أقصيه عما
حوله، أعزله مثلما أعزل روحي عن جسدي المشرف على الاتساخ؛ لأبدو أمامكم كما
تقولون عني الآن: «كيف لهذا الكائن صغير الجسد، جميل المظهر، أن يجلس هنا،
ويكون هذا القفص، هو بوابته لمجهول، يشرف على المجيء؟!!»
أخيرًا، ستشرق شمسي على هذا السجن الصغير، أمي آتية إليّ من أقصى مقعد في
المحكمة، أرى عينيها، وقد ذبلت من كثرة البكاء، لكنها كعادتها تغالب دموعها
بابتسامة من وجهها الملائكي الجميل، أعلم أنها تريد أن تخفف عني ما بي،
مثلما أعلم أن احمرار وجهها هذا ما هو إلا انعكاس لقلب في الجوف، يحترق
شوقًا لاحتضاني.
مثلما تعاهدنا على أن نحيا كل يوم كأنه أول يوم التقينا به، ونملأ حياتنا
حبا متجددا، تعاهدنا اليوم ومن خلف هذه الأسلاك، أن نعلم الجميع كيف يمكن
للشدائد أن تروي بذرة الحب وتسقيها قطرة قطرة حتى تنبت، وتظلل فروعها الكون
بكامله.
أربت على يدي بشدة يا رفيق دربي ورحلتي، المشرفة على الوصول لمحطة النهاية،
فأنا منذ أن أودعوني في هذا المكان الكئيب، وأنا أشعر بالبرد والخوف،
أتعلم كم هو شاق أن يمتزج الشعوران معًا، فينقضوا على جسدك بكامله، ويأكلان
منه حتى تتلاشى عزيمته!.
دعنا نتفق منذ الآن، حينما نتحول إلى أرقام ملقاة في زنازين متباعدة، أن
تظل تذكر أيامنا سويًا، ولا تنسى اسمي؛ لأنهم حينها سيخبرونك بالنزيلة
رقم(..) وليس "آية"، فظل أنت وحدك تردد اسمي كل يوم، وكل لحظة.
انظر إليهم كيف يتعجبون مما نحن فيه، أحسبهم يتساءلون: ما بال هذه المجنونة
وزوجها، يتركان محاكمتهما والمصير الذي ينتظرهما، يتسامرون ويضحكون،
وكأنهم في إحدى الحدائق أو المتنزهات؟!! لا يعلمون أننا في مثل هذه الحالات
تقوى أواصر الحب بيننا أضعاف المرات، نستطيع أن نحول أيام السنة كلها إلى
أعياد.
حكاية الفتاة التى تحدث عنها السيسي في حوار «فوكس نيوز»
Reviewed by اسرار الحياة
on
10:48:00 ص
Rating: 5
ليست هناك تعليقات: